“تمثال الأحرار” يشعل الحرب السيبرانية بين أستونيا وروسيا
تمثال الأحرار” الذي يشعل الحرب السيبرانية بين أستونيا وروسيا
عبدالعزيز محسن
أدى الانترنت إلى ظهور أسلحة رقمية جديدة لها القدرة على تدمير الأفراد والمؤسسات بل حتى الحكومات عن طريق ما يسمى بـ”الهجمات الإلكترونية” التي تستهدف اختراق وشل حركة قطاعات كاملة في دول معينة بهدف تكبيدها خسائر مادية فادحة أو الحصول على معلومات سرية أو تعطيل أنظمتها.
ولهذه الهجمات الإلكترونية تاريخ طويل يعود لأواخر التسعينيات.
وعلى الرغم من أن بعض هذه الهجمات قد تكون لها أهداف كطلب فدية أو تدمير أنظمة دولة تحاول تطوير أسلحتها النووية إلا أن بعضها قد يحدث لأسباب أكثر بساطة، كتغيير مكان نصب تذكاري!
إليك قصة “تمثال الأحرار” البرونزي في أستونيا الذي كان تغيير مكانه سبباً لهجمات إلكترونية روسية استمرت ثلاثة أسابيع سببت شللاً في أجهزة الحكومة بأكملها وأسفرت عن شغب شعبي هائل.
بداية التوتر بين أستونيا وروسيا
لجمهورية أستونيا الواقعة في بحر البلطيق شمال أوروبا وروسيا تاريخ طويل من الصراع في العلاقات الثنائية بينهما، وتعود المشاكل بينهما إلى مئات السنين ولكنها بلغت أوجها بعد حل الاتحاد السوفييتي.
بالعودة للوراء، بعد أن ضم السوفييتي دول البلطيق (ليتوانيا ولاتفيا واستونيا) له في عام 1940، نقلت الحكومة الروسية التي عرفت باسم الكرملين مئات الآلاف من الروس إلى أستونيا.
كان هناك هدفان من وراء هذه الهجرات الجماعية: الأول كان تقوية نفوذها في المنطقة، والثاني هو “إضفاء الطابع الروسي” على الثقافة الأستونية.
لكن بعد نهاية الحرب الباردة وحل الاتحاد السوفييتي عام 1991، أصبحت أستونيا جمهورية مستقلة واتبعت الحكومة في العاصمة الأستونية، تالين، سياسات لتقليل التأثيرات الروسية على الثقافة الأستونية.
وعلى الرغم من انضمام أستونيا إلى حلف الناتو في عام 2004 وحصولها على ضمان الأمن المتبادل بموجب المادة 5 من قوانين حلف الأطلسي، إلا أن عدم الثقة في نوايا موسكو بقي موجوداً.
نصب تذكاري يفجّر الغضب
ظل مناخ التوتر العام بين الأستونيين العرقيين والأقلية الروسية في البلاد مستمراً في البلاد بعد استقلالها لسببين: الأول، كان تقلّد العديد من الروس لمناصب مهمة في الحكومة، خاصة أنه كان لديهم ولاء للاتحاد السوفييتي رغم انحلاله.
أما السبب الثاني فهو نظرة الأستونيين للروس كمحتلين غزوا بلادهم لتحريرها من النازيين ولكن أعادوا احتلالها لنصف قرن.
ظل هذا التوتر في حدود السيطرة حتى تاريخ 27 أبريل العام 2007، عندما قررت الحكومة نقل تمثال برونزي لجندي في وسط العاصمة تالين إلى مقبرة تالين العسكرية وقامت بنقله في تاريخ 30 أبريل من نفس العام.
كان تمثال الجندي البرونزي التذكاري، الذي شيدته الحكومة السوفييتية في عام 1947، يُطلق عليه في الأصل “النصب التذكاري لمحرري تالين”. والذي كان بالنسبة للروسيين في أستونيا يمثل انتصار الاتحاد السوفييتي على النازية.
لكن بالنسبة للأستونيين العرقيين لم يكن السوفييت محررين بل محتلين، والتمثال البرونزي هو رمز مؤلم لنصف قرن من القمع السوفييتي.
أعمال شغب وعنف وغضب نتيجة القرار
أثار قرار نقل مكان النصب التذكاري غضب الروس الذين اعتبروه إهانة لقوميتهم وتضحياتهم ودمائهم التي سالت على أرض أستونيا.
وبعد أن قامت وسائل الإعلام الناطقة بالروسية بتحريض مواطنيها ودعتهم إلى النزول إلى الشوارع احتجاجاً.
تفاقمت الاحتجاجات لتصل إلى أعمال شغب وعنف بسبب التقارير الإخبارية الروسية الكاذبة التي ادعت أن الحكومة الأستونية ستقوم بتدمير التمثال ومقابر الحرب السوفييتية المجاورة. ونتج عن ذلك إصابة 156 شخصاً ووفاة شخص واحد واعتقال أكثر من 1000 شخص.
هجمة إلكترونية شرسة تشلّ البلاد
بالإضافة إلى الشغب الذي بدأ إثر التصريح بالقرار، تعرضت جمهورية أستونيا لسلسلة من الهجمات الإلكترونية على نطاق غير مسبوق استمرت لثلاثة أسابيع.
فقد أصابت الهجمات شبكات الكمبيوتر في برلمان أستونيا والوزارات الحكومية والبنوك ووسائل الإعلام والعديد من الأحزاب السياسية بالشلل، ما أدى إلى قطع اتصال حوالي 58 موقعاً أستونياً.
جاءت هذه الهجمات من عناوين معرّفات رقمية (IP address) روسية، وكانت التعليمات عبر الإنترنت باللغة الروسية، وتم تجاهل النداءات الأستونية إلى موسكو للحصول على المساعدة.
ولم يكن هناك دليل ملموس على تورط الحكومة الروسية في الهجمات.
الناتو يرفض التدخل
طالبت حكومة أستونيا الناتو بالتدخل بعد رفض موسكو مساعدتها لكنه رفض رغم عضويته فيه.
تضمن المادة الخامسة من تحالف الدول الأوروبية أن أعضاء الناتو يدافعون عن بعضهم البعض، حتى لو كان هذا الهجوم إلكترونياً. لكن المادة الخامسة لا يتم تفعيلها إلا إذا أدى الهجوم إلى خسارة كبيرة في الأرواح تعادل الهجوم العسكري التقليدي.
قال مسؤول حكومي أستوني، لم يكشف عن هويته، لموقع BBC الإخباري، إن الأدلة كانت تشير إلى أن الهجوم “كان مدبراً من قبل حكومة الكرملين الروسية، ثم اغتنمت العصابات الخبيثة الفرصة للانضمام ومهاجمة أستونيا”.
الهجوم حوّل أستونيا لدولة قوية إلكترونياً
كان عام 2007 بمثابة جرس إنذار لأستونيا؛ حيث ساعدت الهجمة الأستونيين على أن يصبحوا خبراء في مجال الدفاع الإلكتروني اليوم ودفعت الحكومة إلى زيادة استثماراتها في مجال الأمن الإلكتروني.
فقد أنشأت حكومة أستونيا وحدة طوعية للدفاع السيبراني (الإلكتروني) وإنشاء رابطة الدفاع الإستونية ووحدة الدفاع السيبراني السرية التي يتم فيها تدريب خبراء تكنولوجيا المعلومات الرائدين في البلاد من قبل وزارة الدفاع والذين يظلون مجهولين.